ن والقلم
قال الله تبارك وتعالى (ن والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون .وإن لك لاجرا غير ممنون .وإنك لعلى خلق عظيم .فستبصر ويبصرون . بأييكم المفتون . إن ربك هوأعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ).
هذه السورة هي الوحيدة التي تبدأ بحرف ( ن ) في القرآن الكريم وقد كثر كلام المفسرين في هذه الأحرف المقطعة التي تدخل ضمن متشابه القرآن وليس لقائل فيها مقال بعد الله عز وجل ون ومثيلاتها عناوين للسور التي تبدأ بها ليس إلا .والله اعلم بها.
وحينما نتأمل قليلا في القلم الذي اقسم الله به وجاءت سورة من كتاب الله باسمه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع وإن تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب بالقلم من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة مما كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان  وكان ذلك كله بواسطة (القلم ) .ولقد قسمت حياة الإنسان إلى عصرين ( عصر التأريخ ) و ( عصر ما قبل التأريخ ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخط واستطاع أن يدون قصة حياته وأحداثها على الصفحات وبتعبيرآخر يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده ودون للآخرين ما توصل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه .آخذين بالإعتبار ان هذه السورة نزلت الثانية بعد اول سورة نزلت على المصطفى ص العلق وفيها يأمره الله ان -أقرأ باسم ربك الذي خلق- فهذا التواصل بين القراءة والكتابة في اللغة العربية التي اعزها الله وكرمها احسن تكريما بأحسن كتاب ومن احسن نبي فكانت لغة عباد الله الصالحين بين كل العالمين يكرم بها متعلمها وكاتبها بالتقوى والهدى للدين وليس بالعرق والجهل بالدين لذلك ختمها الله بقوله -وان لك لأجرا غير ممنون- أي اجرا مستمرا لا يجب ان ينقطع بالمعاصي والفجور وطاعة الشيطان حيث لا تنفعك عند ذلك أي لغة ولا أي قلم في أي مقام وجاء في الحديث (أن قريشا حينما رأت رسول الله ص يقدم الإمام علي ع على الآخرين ويجله ويعظمه غمزه هؤلاء وقدحوا به وقالوا ( لقد فتن محمد به ) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله (ن والقلم) وأقسم بذلك وإنك يا محمد غير مفتون ومجنون حتى قوله تعالى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلوا وانحرفوا عن سواء السبيل  إشارة إلى من كان يتهم الرسول كما أنه تعالى اشار بمن اهتدى إلى الإمام علي ع فالقلم يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية وهومرآة تعكس صور المفكرين على طول التاريخ في كل الدنيا وتجمعها في مكتبةكبيرة .
ومن الطبيعي عندئذ أن يكون ( القلم ) وسيلة ل‍ ( ما يسطرون ) من الكتابة فأقسم القرآن الكريم ب‍ ( الوسيلة ) وكذلك ( بحصاد ) تلك الوسيلة ( وما يسطرون ) .وجاء في بعض الروايات إن أول ما خلق الله القلم وقال بعض العلماء : (البيان بيانان : بيان اللسان  وبيان البنان وبيان اللسان تدرسه الأعوام وبيان الأقلام باق على مر الأيام ) وقالوا أيضا : ( إن قوام أمور الدين والدنيا بشيئين : القلم والسيف والسيف تحت القلم ) وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى بقولهم :
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت * أن السيوف لها مذ أرهفت خدم *
وقد عرض الله في هذه السورة التي اقسم بقلمها وسطورها كل صفات الأخلاق التي ينبغي ان يتحلى بها اهل الحضارة فعددها تبارك وتعالى متتالية متناغمة متماهية مع بعضها فصارت خلقا لنبيه الأكرم ص ينبغي على العبد الرجوع اليها عقلا وعملا ليتأسى برسول الله ص فمما سردت هذه السورة قصة صاحب مزرعة غنية كبيرة وبأوفر منتوج ورثها ابناؤه من بعده فقال الله فيها (إنا بلوناهم كما بلونا أصحب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين . ولا يستثنون . فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون . فأصبحت كالصريم  فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون .أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين .فالآيات الكريمة تذكر لنا قصة موضوعها: أن شيخا مؤمنا طاعنا في السن كان له بستان عامر يأخذ من ثمره كفايته ويوزع ما يزيد من ثمره للفقراء والمعوزين وقد ورثه أولاده بعد وفاته وقالوا : نحن أحق بحصاد ثمار هذا البستان كله ولا نوزع للفقراء كما كان يفعل ابونا  لأن لنا عيالا وأولادا كثيرين ولا طاقة لنا بإتباع نفس الأسلوب الذي كان أبونا عليه بتوزيع الفاضل الى الفقراء والمحتاجين وصمموا على أن يكنزوا ثمار البستان جميعا ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها فكانت عاقبتهم كما تحدثنا الآيات الكريمة احتراق ودمار وخراب هذه المزرعة الكبيرة الخيرة وعند التدقيق في قرارهم هذا يتضح لنا أن تصميمهم هذا لم يكن عن الحاجة أو الفاقة بل إنه ناشئ عن البخل وضعف الإيمان واهتزاز الثقة بالله سبحانه لأن الإنسان مهما اشتدت حاجته فإنه يستطيع أن يترك للفقراء شيئا مما أعطاه الله فسلط الله على ارزاقهم نارا حارقة وصاعقة مهلكة بحيث أن جنتهم هذه صارت متفحمة سوداء فأصبحت كالصريم ولم يبق منها شئ سوى الرماد .
وعلى كل حال فإن أصحاب البستان بقوا على تصورهم السابق لأشجار جنتهم المملوءة بالثمر الجاهزة للقطف فتنادوا مصبحين عند الصباح وقالوا : أن اغدوا على حرثكم الى جنتكم إن كنتم صارمين جادين فانطلقوا وهم يتخافتون انطلقوا خلسة وكانوا يتكلمون بهدوء حتى لا يصل صوتهم إلى الآخرين ولا يسمعهم مسكين فيأتي لمشاركتهم في عملية جني الثمر أو تناول شئ من الفاكهة علما ان الفقراء كانوا بانتظار يوم الحصاد هذا بفارغ الصبر في مثل هذه الأيام  لأنهم تعودوا في كل سنة أن ينالهم شئ من العطاء كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن ابوهم رحمه الله  إلا أن تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء والسرية التي غلفوا بها تحركاتهم لم تدع أحدا يتوقع أن وقت الحصاد قد حان فاطلع الفقراء على الأمر بعد انتهائه وخابت آمالهم فقصدوهم فتحول هؤلاء الأبناء البخلاء لحالة عصبية وانفعالية من حاجة الفقراء لهم وانتظار عطاياهم فصمموا على منعهم من ذلك فكان الدمار والبلاء والخراب الذي ذكرته الآيات موعظة للعاقلين ورغم انهم اقروا بذنبهم الا ان كلا منهم يحاول التنصل مما لحق بهم ويسعى جاهدا لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على أخيه وصار شعور كل منهم مما حصل يدفعه للتخلي عن مسؤوليته عما حصل وفي مثل هذه الحال يساهم الجميع في هذه الجريمة لأن الظالم اذا اراد أن يستجيب للواجب فان غلبة هواه وبخله وعدم ثقته بالله  يدفعه إلى المنع ويعلن تمرده عليه ولايعترف برسميته . ويقول تعالى في آخر آية من سورة القلم بلحاظ الاستفادة من هذا الدرس والاعتبار به : كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .
وهكذا توجه الآية خطابها إلى كل المغرورين الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية  وغلب عليهم الحرص والاستئثار بكل شئ دون المحتاجين بأنه لن يكون لهم مصير أفضل من ورثة هذه المزرعة  وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقتها فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمرة والبلايا وما إلى ذلك لتذهب بالنعم التي يحرصون عليها . فحرمان الآخرين والاستئثار بالأموال والتلذذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه مرض وبلاء في حياتنا المعاصرة وله نماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية وقصة ( أصحاب الجنة ) التي حدثتنا الآيات السابقة عنها هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة وغاب عن بالهم أن آهات هؤلاء المحرومين تتحول في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجآت وثورات ويشاهدون آثارها المدمرة بام أعينهم
ونقل عن ابن عباس أنه قال :( إن العلاقة بين الذنب وقطع الرزق  أوضح من الشمس كما بينها الله عز وجل في سورة ن والقلم وما يسطرون  ).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة